أوروبا في مواجهة أمريكا- الاستقلال الاستراتيجي وتحديات عالم متغير

المؤلف: سلطان السعد القحطاني09.21.2025
أوروبا في مواجهة أمريكا- الاستقلال الاستراتيجي وتحديات عالم متغير

تشهد القارة الأوروبية في هذه الحقبة الزمنية تحولات عميقة، حيث تحاول جاهدة استيعاب واقع جديد فرضته التوجهات الأمريكية، التي تشدد على ضرورة اعتماد أوروبا على ذاتها في تسيير شؤونها ومواجهة تحدياتها المصيرية. لم يكن هذا التحول وليد اللحظة، فقد عبّر الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، مرارًا وتكرارًا عن اعتقاده بأن بلاده تتحمل أعباءً جسيمة في حماية قارة لا تبدي استعدادًا لإنفاق موارد كافية للدفاع عن نفسها. وعلى الجانب الآخر، تتصاعد الأصوات في أوروبا المطالبة بدعم أوكرانيا وتعزيز الاستقلال عن الولايات المتحدة، وكأن القارة العجوز تردد: "رب كلمة قالت لصاحبها دعني".

وإذا ما استمر هذا الخلاف المحتدم طوال السنوات الأربع القادمة، فمن المؤكد أنه سيفرض واقعًا جديدًا ومغايرًا، وسيلقي بظلاله القاتمة على مسار الحرب الأوكرانية وتداعياتها الجيوسياسية.

تبرز الأصوات الداعية إلى استقلال أوروبي عن الهيمنة الأمريكية، وعلى وجه الخصوص الأصوات الصادرة من بريطانيا وألمانيا، كأصوات بالغة الأهمية. إلا أن فرنسا، تحديدًا، تبدي رغبة جامحة في الاضطلاع بدور محوري لتعويض ما فقدته من نفوذ وتأثير. ففرنسا، التي تكبدت خسائر فادحة في مناطق نفوذها التقليدية في أفريقيا، تسعى جاهدة للحفاظ على موطئ قدم في الشرق الأوسط، وترسيخ مكانتها ونفوذها في المنطقة المضطربة.

لقد تعرضت فرنسا لانتكاسات كبيرة في القارة الأفريقية، لا سيما بعد سلسلة الانقلابات العسكرية التي أطاحت بالحكومات الموالية لها في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وما تبع ذلك من طرد للقوات الفرنسية من تلك الدول. وقد أدى هذا التراجع إلى صعود النفوذ الروسي، من خلال مجموعة فاغنر الأمنية، والنفوذ الصيني الاقتصادي. ولذلك، تسعى فرنسا جاهدة في الوقت الراهن إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية المستقرة، مثل دول الساحل الشرقي والسنغال، كما تعمل على توسيع حضورها الاقتصادي والسياسي في آسيا وأوروبا الشرقية، في محاولة لتعويض خسائرها في أفريقيا.

وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن أوروبا، وعلى رأسها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يسعى إلى بناء مجد أوروبي جديد، لا تدرك تمامًا حجم التغيرات التي طرأت على الخريطة الجيوسياسية للعالم، وأن الأوضاع لم تعد كما كانت في السابق. ومن المؤكد أن العلاقات مع دونالد ترمب، في حال عودته إلى السلطة، ستشكل عبئًا ثقيلاً على أوروبا خلال السنوات الأربع المقبلة.

ثمة توتر سياسي متصاعد بين أوروبا، وخاصة فرنسا وألمانيا وبدرجة أقل بريطانيا، والولايات المتحدة، وذلك بسبب مواقف دونالد ترمب، لا سيما فيما يتعلق بحلف شمال الأطلسي (الناتو). ويتركز الخلاف حول نقطتين أساسيتين: الأولى، انتقادات ترمب الحادة للدول الأوروبية، متهمًا إياها بالتقصير في دفع حصتها العادلة مقابل الحماية التي توفرها لها الولايات المتحدة في إطار حلف الناتو، ومطالبته بزيادة مساهماتها المالية. والثانية، تصريحات ترمب المتكررة حول احتمال انسحاب أمريكا من حلف الناتو، أو عدم التدخل للدفاع عن الدول التي لا "تدفع نصيبها"، والتي أثارت قلقًا أوروبيًا بالغًا بشأن مدى موثوقية واشنطن كشريك استراتيجي.

ترى فرنسا وألمانيا تحديدًا أن أوروبا يجب أن تعمل على بناء قدرات دفاعية مستقلة عن الولايات المتحدة، وهو ما تجسد في خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون حول "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي".

يطمح ماكرون إلى قيادة أوروبا نحو تبني سياسة أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة، لا سيما في ظل ولاية محتملة لدونالد ترمب. وهناك خلافات واضحة بين ماكرون وترمب، تتجلى في قضايا مثل الاعتماد الدفاعي على أمريكا (إذ يدعو ماكرون إلى استقلال استراتيجي أوروبي)، والتغير المناخي (حيث انسحب ترمب من اتفاق باريس، وانتقده ماكرون بشدة)، والتعددية الدولية (التي يدافع عنها ماكرون، بينما يميل ترمب إلى الأحادية).

لا يمكن إغفال حقيقة أن توسع حلف الناتو شرقًا بعد انتهاء الحرب الباردة قد اعتبرته روسيا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وردت عليه بغضب متزايد على مر السنين. ويرى العديد من المحللين أن توسع الناتو كان مبالغًا فيه، وأسهم في تأجيج التوترات، وكان أحد العوامل التي أدت إلى اندلاع الحرب في أوكرانيا، لأن روسيا اعتبرت احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو بمثابة خط أحمر لا يمكن تجاوزه.

تشير المعطيات الراهنة إلى أن فرص تحقيق الاستقرار ستظل محدودة، ما لم تقتنع أوروبا بأن مصالح الدول الكبرى يجب أن تجد لها مكانًا تحت الشمس، وأن التعاون والتوازن هما السبيل الأمثل لتحقيق السلام والازدهار للجميع!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة